فقراء الموصل يستعينون بـ (الحب) في محاربة العطش
الموصل- خاص موقع قصة المياه -الشرق الأوسط
استعاد “الحب” وظيفته القديمة في الموصل واتخذ مجدداً موقع الصدارة في المنازل التي حجبت عنها الحرب خدمة مياه الأسالة، بعد أن دمرت الصواريخ والقنابل منشآت التنقية وشبكة الأنابيب. فلم يبق امام المواطنين سوى نبش الأرض بحثاً عن المياه أو انتظار صهاريج منظمات الأغاثة. وفي كلتا الحالتين فإن “الحب”(تلفظ الحاء ساكنة وفق اللهجة الموصلية) هو من يقوم بتصفية المياه وتعقيمها.
و”الحب” أو كما يسمى في مناطق أخرى ( زير) إناء فخاري يستريح على قاعدة من الحديد ليتحمل وزنه الثقيل، يُملأ بالمياه فترشح عنه بالتنقيط الى إناء فخاري آخر أسفل قاعدته يسميه أهل الموصل (حب النقط). ويكون خالياً من الشوائب ومصفى ويستخدم للشرب وإعداد الطعام.
بالإضافة إلى تنقية المياه وتصفيتها فإن الحب يمارس وظيفة تبريد المياه، وتكون المياه المترشحة باردة نسبيا وهو سبب مضاف لاستخدامه لاسيما في موسم الصيف الذي تزيد فيه معدلات الحرارة عن 40 درجة مئوية.
حديثاً زود “الحب” وبنحو مرتفع عن قاعدته قليلاً بصنبور يضمن تدفق المياه النظيفة فقط، وتكون الشوائب او الطمى قد ترسب في أسفل القاعدة تماماً.
وبحسب المؤرخ الراحل “سعيد الديوه جي” فأن أفضل انواع الحب وجمعها(حبوب) كان يصنع في تل أسقف وباقوفا و باطنايا وهي قرى مسيحية كبيرة متجاورة تقع بين بلدتي تلكيف و القوش شمال الموصل.
وأفضل انواع الحب هي أكثرها ترشيحا للمياه وكان الموصليون يعنون بنظافتها و تغطيتها بقماش نظيف بطبق ينسج من سيقان سنابل الحنطة والشعير و يسمونه “طبق كصل” أي طبق قصل.
وبما أن تصفية الماء و تعقيمه لم تكن معروفة عندهم، والماء الذي يأتي به “السقّا” (متعهد نقل المياه من النهر بواسطة الدواب) كان لا يخلو من أوساخ متنوعة لذا كانوا يعقمون المياه بوضع قليل من ماء “عين كبريت” في الحب الكبير ولا يشربون إلا “ماء النقط” أي المترشح في الاناء الثاني.
ويتراوح سعر “الحب” في الوقت الراهن بين 10 الاف دينار و 25 الف دينار بحسب حجمه وجودته، وكثير من العائلات في الموصل تحتفظ بنسخ متوارثة منه، وضعته في أوقات الرخاء ديكوراً منزلياً أو مع مخزنة مع الأشياء الاخرى خارج الخدمة. وها قد أخرجتها الحاجة الماسة الى ميدان العمل مجدداً.
دريد أسعد واحد من بين مئات من أرباب الاسر في الجانب الايمن لمدينة الموصل الذين اعتمدوا في تنقية المياه وتصفيتها على وسائل بدائية منها (الحب) لجعلها صالحة للشرب. كان قد تلقف طريق النزوح الى مخيمات الشمال مع عائلته مثل آلاف آخرين بعد حصار المدينة القديمة قبل سنتين وعاد ليرمم خراب منزله وأسهم برفع الانقاض مع جيرانه ومتطوعين عن الزقاق الصغير الذي ولد وعاش عقود عمره الخمس فيه.
قال بأن عدم وجود مياه صالحة للشرب منع الكثير من العائلات من العودة لترميم منازلها ومواصلة الحياة في المدينة القديمة. لهذا قامت منظمات اغاثية بحفر آبار في المنطقة ومدت منها شبكة أنابيب وقامت أخرى بتوزيع خزانات مياه معدنية على السكان، وجلبت بنحو دوري صهاريج مياه ملأت من محطات التنقية في جانب المدينة الآخر.
“لولا هذا ما عدنا” يقول دريد محتجاً على إهمال الحكومة المحلية إصلاح مشاريع المياه في المدينة القديمة. وأشار الى أن صعوبات أخرى ظهرت حتى بعد حصولهم على تلك المياه. إذ أن المستخرجة من الآبار غير جيدة وأنه سمع تقارير صحفية مخيفة عن أمراض تسببت بها هذه المياه ولاسيما بالنسبة للأطفال. لذلك اعتمد على الحب في تصفية المياه. وكذلك يفعل جيرانه.
“الحب صديق الفقراء”، يقول هذا التدريسي المتقاعد “غانم بشار” من سكان منطقة سوق الشعارين في الجانب الايمن للموصل، ويوضح بسخرية ممزوجة بالالم: “الأغنياء يعتمدون على المياه المعبأة، سعر العبوة الواحدة 500 دينار. أي 15 ألف دينار شهرياً في أقل تقدير. وهو ما لا يمكن لنا تحمله بسبب تكاليف معيشية أخرى”.
ويشير الى انه استخدم (الحب) الخاص بأبيه. “كان قد أحيل إلى التقاعد مثلي” يقول ممازحا. ثم تابع: “احتفظنا به في السرداب لسنوات طويلة، وعدنا الآن إلى استخدامه بعد تصليحات طفيفة”.
ويبلغ عدد سكان الموصل نحو مليون و 750 الف نسمة. يسكنون في جانبي المدينة الأيمن والأيسر التي يقسمها نهر دجلة الهابط إليها من الشمال. وبحسب المهندس (فائز مروان) فإن الموصل تستريح على بحر من المياه الجوفية، وقد أسهم وإلى حد بعيد سد الموصل وخزانه المائي الكبير بنشوئها.
لكن هذه المياه ولا سيما القريبة من السطح ليست صالحة للاستهلاك البشري بنحو كامل. ويفسر ذلك بقوله: “الموصل مدينة كبيرة لكن مع ذلك ليس فيها نظام تصريف للمياه الثقيلة. وكل القطاعات السكنية تعتمد على خزانات كونكريتية مدفونة في باحات المنازل بأرضية طينية لجمع هذه المياه. ونادراً ما يتم نزحها. لذا تترسب إلى باطن الأرض وتختلط مع المياه الجوفية.
ويضيف بأن المياه الجوفية في الموصل مختلطة ايضاً بالمياه الكبريتية، وهو ما يعطي للمياه طعما مراً الى حد ما. وبذلك فأن أفضل طريقة للحصول على مياه صالحة للأستخدام في الموصل يكون عن طريق الآبار هو بالحفر لما يزيد عن خمسين متراً في المناطق القريبة من ضفتي نهر دجلة. واكثر من مئة متر كلما تم الابتعاد عن النهر.
وهذا ما يحدث فعلياً في المدينة تعويضاً للنقص الكبير في المياه. إذ تنشط حفارات الآبار الارتوازية في مختلف انحاء مدينة الموصل، بدعم من منظمات خيرية تمد هذه الابار بالأنابيب ومضخات المياه الغاطسة. وفي مسار آخر متواز، تنشط سوق لصناعة وتجارة الحب. وظهرت مجدداً وظيفة( الكواز ) المنقرضة. وهذا الاسم يطلق على صانعي الفخاريات ومنها الحب، وعائلات عديدة من الموصل تحمل هذا اللقب نسبة الى مهنتها.
ويعود الاهتمام الشعبي بصديق الفقراء تدريجياً في إشارة واضحة الى يأس جماعي من إنجاز المشاريع التي وعدت بها الحكومة دون الشروع بتنفيذ أي منها على الرغم من مرور اكثر من عام على انتهاء الحرب.