كيف تحولت مياه دجلة في الموصل من مياه صالحة للشرب إلى مصبّ للنفايات
By Ali Eyad – Mosul, Iraq
قبل خمسة عقود، وبخطى متسارعة، اعتاد الصديقان معاذ وأبو نجلاء أن يقصدا الجسر العتيق على نهر دجلة، في مدينة الموصل شمالي العراق. كانا يقفان عند منتصف الجسر، ينظران الى مياه النهر مستمتعان بمراقبة الأسماك من تحتهما وبرؤية قاع النهر من خلال المياه الشفافة بينما يتبادلان الأحاديث المشوّقة.
اليوم يتجه الصديقان العجوزان د.معاذ حامد وأبو نجلاء، الى المكان نفسه، عند منتصف الجسر، يمشيان متكئين على عكازيهما وقد غزا الشيب رأسيهما، ينظران إلى النهر دون أن تنفذ الرؤية فيه لمتر واحد من شدة تلوثه. لا شيء يرى سوى المصبات على جانبي النهر والنفايات تطفو على سطح الماء.
“أكثر من 13 مصب فرعي على ضفاف دجلة من نقطة دخوله الموصل حتى خروجه، ويقدر حجم المياه المطروحة من هذه المصبات بحوالي 500000م3/يوم، ومعظم هذه المياه فيها ملوثات معدنية كبريتية وصرف صحي يأتي من مختلف المناطق بما فيها مطروحات صناعية واخرى عضوية”، بحسب د.معاذ حامد عميد كلية البيئة المتقاعد في جامعة الموصل، والذي أعد دراسة تفصيلية عن الموضوع عام 2014 وقبل سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) على المدينة.
التوزيع العشوائي للأسواق في الموصل وافتقار المدينة لمحطات معالجة مياه الصرف الصحي، وشبكة المجاري القديمة المخصصة لتصريف مياه الأمطار فقط والتي تصب فيها المياه الثقيلة من عدة مناطق سكنية، كلّها عوامل ساهمت بتلوث مياه النهر، دون اكتراث أو اهتمام من قبل السلطات المسؤولة في محافظة نينوى.
مياه دجلة ليست نقية
تعتبر مياه الأنهر الجارية وخاصة الأنهار الكبيرة مياهاً نقية كونها تأتي من مصبات خارجية أو مياه مصدرها جوف الأرض أو الينابيع، إلا أن “مياه دجلة لم تعد خاماً (نقية)” كما قال د. معاذ موضحا أن “مياه نهر دجلة تدخل الموصل محملة من 3_5ملم غرام/ لتر تلوث عضوي وتغادرها بمقدار تلوث يفوق الـ 100ملم غرام/ لتر تلوث عضوي”، مبينا أن نسبة التلوث العالمية ” 5 ملم غرام/لتر كحد أقصى” وإذا زادت النسبة عن هذا الرقم يتحول تصنيف المياه إلى “مياه محدودة التلوث”.
أكثر من 20 مصب لمياه المجاري يصب مباشرة في دجلة دون معالجة او حتى معاملة من جانبي المدينة بحسب مخطط لمجاري نينوى اطلع عليه معد التقرير.
تختلف هذه المصبات بكميات التلوث وحجم مطروحاتها. “مياه مجارينا ليست ملوثة لانها استعمال منزلي فقط”، يقول الفني في مجاري نينوى عمر منذر مضيفا “وشبكتنا هي لتصريف مياه الأمطار وليست شبكة مجاري”.
وتفتقر مدينة بحجم الموصل لشبكة مجاري بمواصفات عالمية، فالشبكة الحالية تعود إلى القرن الماضي وهي مصممة للتخلص من مياه الأمطار بالأساس، وبالتالي أصبحت شبكات المجاري تصب مباشرة في النهر.
تلوث نهر دجلة ليس مصدره مياه الصرف الصحي والمخلفات من داخل المدينة فحسب، بل مربو الحيوانات لاسيما الجاموس بحسب د. نزار النعيمي استاذ التربة في جامعة الموصل، مبينا أن “المناطق التي تقع على ساحلي نهر دجلة قبل دخوله للمدينة تشتغل بأعمال تربية الجاموس وهؤلاء يرمون نفايات حظائرهم التي أغلبها عضوية، في النهر”.
إضافة إلى الملوثات التي تأتي للنهر من الخارج عن طريق المصبات هناك غابات من الأعشاب والردم في قاع النهر بسبب الإهمال وغياب عمليات التنظيف بحسب د. معاذ الذي أوضح أن “قاع دجلة تحول إلى غابة لنباتات بدائية تنمو وتموت وتتحلل فتزيد نسبة المواد العضوية المذابة”.
المسؤولون في مديرية البيئة في نينوى يقولون من جهتهم إن “النهر بحالة جيدة”، وأكدوا لمعد التقرير أنهم لا يملكون المزيد من التوضيحات. معد التقرير ترك رقمه لدى إعلام الدائرة أملاً بالاتصال به والحديث عن وضع نهر دجلة أكثر.
توزيع عشوائي
تتجول في الحي الصناعي لترى عامل محل تبديل البطاريات يحمل بطارية السيارة من داخل محله ويفرغ محتواها في المجرى الخارجي الذي سينتهي في النهر بعد مروره بأنابيب المجاري دون معالجة. ليس هذا فحسب انما سترى خلال تجولك أنواع الملوثات من دهون سيارات وكاربون وغيرها تصب في المجاري، وهكذا الحال في كافة أسواق الموصل مثل سوق القصابين الذين يرمون كافة البقايا العضوية في مجاريه إضافة لأكياس الدم.
أما الأحياء السكنية وخاصة تلك التي استحدثت مؤخرا بتوزيع عشوائي، فلها أثر في تحويل الوديان الموسمية الى بؤرة ملوثة كليا، حيث يصف الدكتور معاذ هذا التوسع العمراني دون أي مخطط لمجاري صرف الصحي بأنه “جريمة” ويكمل أن نهر مثل الخوصر ملوث بكثير من المواد “يلوث دجلة فعليا ويجب معالجته قبل أن يصب في دجلة”.
نهر الخوصر هو أكبر رافد موسمي لنهر دجلة في الموصل هذا الرافد تحول لمجرى يوصل مياه مجاري الأحياء الجديدة إلى النهر حتى أصبح غير صالح للشرب بسبب التصريف الجائر لمياه المجاري.
شبكات تصريف المياه “فقيرة في الموصل” بحسب الفني في مجاري نينوى عمر منذر ويضيف منذر “إن نظامنا قديم جدا ويعتمد على درجة انحدار الأرض في تصريف المياه” ولهذا السبب تم تحويل عدد من الوديان الى مجاري تصريف مياه بعد تسليط مياه الأحياء القريبة عليها” وبهذه العملية تحولت بعض الوديان الموسمية الى وديان دائمة الجريان.
وادي الدانفلي الذي يمر بالمنطقة الصناعية في أيسر الموصل وتصب فيه مطروحات السيارات من زيوت ودهون وغيرها من ملوثات إضافة إلى مياه مجاري الصرف لعدد من الأحياء، توجد على ضفتيه باتجاه النهر حوالي 14 مزرعة تأخذ مياهها من هذا الرافد. يقول د. نزار المختص في التربة “إن هذه المياه الملوثة قد تسبب بتلوث المحصول وخاصة الخضار” ويكمل وبنبرة صوت اعلى “الحل بمعالجة مياه الوادي أو إلغاء هذه المزارع أصلا”.
أحياء تطرح مياهها الثقيلة عبر الشبكة
في الموصل صمم نظام تصريف المياه الثقيلة بطريقة بريطانية وهو قديم نوعا ما، أما في البيوت فيتم حفر حفرة” قسطل” بعمق معين وعرض وتبنى على جوانبها قطع من الطابوق وتترك من الأسفل دون رصف، ليتم ترشيح المياه في التربة. وبعد فترة من الزمن تتجمع الفضلات الصلبة التي يتم سحبها بواسطة عجلات مخصصة، ثم رميها إلى خارج المدينة أو أماكن معالجة للاستفادة منها.
إلا أن هذا الأمر لا يجري على جميع أحياء الموصل البالغ عددها 183حيّاً، إذ إن تسع مناطق سكنية في المدينة تصرف مياه البيوت الثقيلة الى شبكة المجاري وبالتالي الى النهر، مثل اليرموك والمنصور والحدباء والدركزلية ودوميز العربي والجزائر والتحرير وحي الزهراء.
هذا بالاضافة إلى أن بعض الاحياء السكنية تستخدم نظام “الاوفر فلو”، حيث يوضع أنبوب في أعلى القسطل، وعندما يمتلئ بالفضلات يقوم باخراجها إلى المجاري وهذا ما أكده الفني في مجاري نينوى عمر منذر مبينا أن “جميع الأحياء تقريبا فيها تجاوزات، إلا أننا لا نتمكن من متابعتهم وإجبارهم على رفع التجاوز بسبب اتساع رقعة الموصل الجغرافية”، وبجولة قصيرة رصد معد التقرير حوالي 7 منازل تستخدم نظام “الاوفر فلو” في منطقة سكنية واحدة.
أغلب المواطنين في المدينة لا يدركون خطورة هذا الأمر، ويساهمون بزيادة تلوث النهر الذي يعد مصدرهم الوحيد لمياه الشرب، يقول (س) الذي رفض الكشف عن اسمه وهو صاحب إحدى المنازل “لا توجد حكومة، وإن هذه المياه تذهب للمجاري”، مضيفا بابتسامة “لا تجعلوها مشكلة، هذا شيء طبيعي”، وارجع الناشط المدني ابراهيم الطائي هذه الظاهرة ” لقلة التوعية في مجال التلوث والحفاظ على البيئة”.
الفني عمر منذر قال إن “شبكة المجاري في الموصل مغلقة تماما، من البيوت إلى أنابيب وأحواض، وتنتهي إلى النهر، ولكن هذه الشبكة تتعرض إلى انتهاك من قبل المواطنين، ويتم رمي الاوساخ فيها، فتحلل وتتأكسد وتساهم في زيادة نسبة التلوث”، مضيفا أن “4_9 طن من النفايات تقريبا تستخرج من شبكة المجاري في الجانب الأيسر من المدينة يومياً”، مؤكدا ان هذه النفايات وعندى تعرضها للضغط تنتج عصارة “شديدة السمية”.
مديرية المجاري تعمل على تطوير شبكاتها للحد من التلوث، هذا بالاضافة للتخطيط لمشاريع استراتيجية، قد تنقذ النهر والمدينة، مثل مشروع بناء شبكة صرف صحي جديدة تنتهي بمحطات تصفية ومعالجة قبل أن تصب في النهر.
حلول رخيصة
يرى د. معاذ إنه من الضروري وضع خطة لمعالجة المياه، والحد من التلوث بواسطة شبكات المجاري حديثة، مضيفا ان “الحكومات ومنذ تأسيس الدولة العراقية لم تهتم بالمجاري والصرف الصحي نهائيا” مبينا ان “هناك حلول بسيطة ورخيصة متوفرة في العراق” وقد قدمت المشروع الى الحكومة المحلية قبل سيطرة داعش على المدينة ولم يأتني رد”.
كما يطرح بعض الحلول الأخرى السهلة على حد وصفه، مثل زراعة أكتاف النهر بالأشجار دائمة الخضرة والقصب الذي يحد من التلوث، إذ إن هذه النبات وحدها قادرة على امتصاص الملوثات وتثبيت التربة، مضيفا أن على السلطات المحلية او المركزية الإسراع في التخلص من الغابات البدائية التي نمت في قاع النهر”، يسكت الدكتور معاذ ثم يضيف “على الحكومة بناء محطات معالجة ضخمة”.
وصرحت دائرة مجاري نينوى أن هناك مشروع استراتيجي لعمل مجاري صرف صحي ومحطات معالجة سينتهي الجزء الأول منه خلال سنتين وقد يستمر المشروع لسنوات، ويحتاج إلى ميزانية ضخمة بحسب الفني في مجاري نينوى عمر منذر.
ينظر العجوزان الى بعضهما وهما يهمان بمغادرة الجسر العتيق محملين بكومة من الحزن والأسف على حال النهر الذي يدرسانه منذ شبابهما، متمنيان ان يعود كما كان ليستمتعا بمنظر الاسماك ويطمأنان على أحفادهما الذين ستلحق بهم مخاطر تلوثه .