صنابير المياه تختنق بالعكورة في الموصل وشبكات النقل العجوز بحاجة الى استعادة شبابها
نوزت شمدين/خاص لموقع قصة المياه- الشرق الأوسط
التزم سعيد موقعه القريب من صنبور الماء الرئيسي في مدخل المنزل لما يقرب من نصف نهار، بعد إعلان مديرية ماء نينوى إعادة ضخ المياه لمناطق الجهة الشرقية من جانب الموصل الأيمن والذي توقف أشهراً عديدة بسبب حرب التحرير من داعش التي أدت الى خراب كبير في البنى التحتية ومن ضمنها مشاريع المياه.
كانت الشمس تنزلق بهدوء في البعيد عندما التقط سعيد صوت غرغرة في الصنبور، فأطلق صيحة تفاعل معها أبناؤه الأربعة وزوجته بالهتاف وتحلّقوا حوله يسترقون السمع وفي قلوبهم لهفة العائدين للتو من مخيمات نزوح اكلت ثلاث سنوات من أعمارهم.
بعد لحظات من الترقب عطس الصنبور عطسته الأولى ثم أخذت المياه تتسرب بوتيرة تصاعد دفقها بينما كانت الابتسامة قد شطبت من الوجوه وتوقفت الملامح عند لحظة الإحباط بسبب اللون الطيني للمياه وعكورته الطاغية التي ازدادت قتامةً بمرور الوقت.
في اليوم التالي كانت المدينة التي يقطنها نحول مليوني شخص تتحدث بأسرها عن تلوث المياه، واضطر المقتدرون مالياً الى شراء المياه المعدنية للشرب، ومياه الصهاريج المستأجرة لملء الخزانات الاحتياطية واستخدامها في الاستحمام وغسل الثياب. بينما لم يكن أمام الفقراء وبينهم سعيد وعائلته سوى الآبار المنزلية والتي بالكاد تصلح للاستخدام البشري بسبب اختلاط مياهها بمياه المساكن الثقيلة. كون المدينة ليس فيها نظام تصريف، وعالجوها بوسائل تنقية بدائية كالتسخين أو المعالجة بالأواني الفخارية.
على أية حال فإن ذلك يعد استمراراً لتجربتهم خلال الحرب التي استغرقت زهاء سنة، وتسجل ذاكرتهم كيف ان كثيرين فقدوا حياتهم بسبب بحثهم عن الماء، رصدتهم بنادق القنص او شظايا الحرب الطائشة.
ومع ارتفاع حرارة الحديث عن عكورة المياه، خرجت تقارير صحفية بنتائج مفادها تفاقم حالات الإصابة بمرض النكاف بين طلاب المدارس، وتداول ناشطون نصائح طبية بعدم شرب المياه قبل التنقية ورصد حالات اصابة بالمغص المعوي الى جانب النكاف.
مديرية ماء نينوى اضطرت الى وقف ضخ المياه في القسم الاخير من شهر أيار/مايو معلنة في بيان لها ان نسبة العكورة العالية في نهر دجلة فاقت قدرات مشاريعها، وأنها ستنتظر أياماً لحين استعادة النهر صفائه.
وسارع المدير السابق (نيلسون خوشابا) الى نفي شائعات تلوث مياه الاسالة مستنداً الى بيان من مديرية صحة نينوى، ووصف شائعات التلوث بالمغرضة.
وقبل ساعات من إقالة خوشابا من منصبه، أكد بأن مشكلة العكورة في الموصل لا يمكن حلها مطلقاً في ظل الامكانيات الحالية بسبب أن جميع محطات التنقية في نينوى مصممة لمعالجة نسبة عكورة معينة تتراوح بين 100 الى 150 ntu. وقال بان الحل الوحيد يستلزم اضافة منشآت كونكريتية كبيرة للمحطات وهو “أمر صعب لأن مشاريع التنقية في العراق مصممة لمعالجة حد اقصى هو 300 ntu”.
مختبرات مديرية ماء نينوى أطلقت رسائل تطمينية للمواطنين من خلال التأكيد على المعالجات المطلوبة للمياه قبل ضخها للإستهلاك. وأشارت “خالدة طلال” معاونة رئيس البايلوجيين في الدائرة إلى إجراء الفحوصات البايلوجية والكيمياوية لجميع مشاريع المياه محافظة نينوى والأحياء السكنية التابعة لهذه المشاريع.
وتالعت أن موظفي قسم السيطرة النوعية في الدائرة يقومون بزيارات دورية للمشاريع والاحياء السكنية على حد سواء، وتفحص العينات الواردة من المشاريع بواسطة جهاز (الكلوريد) لفحص بكتريا (الايكولاي والكيلفون) . وأقرت بان هنالك نسب من هذين النوعين من البكتريا في عينات المياه “لكنها ضمن الحدود المسموح بها” وان “المياه هذه صالحة للاستخدام البشري”.
وضمن حملة التطمينات ذاتها، قال مدير وحدة التعقيم “محمود رائد الشاكر” إن مياه المحطات “معقمة بشكل جيد، والعكورة في المياه سببها موسم فيضان النهر وهو ما يتطلب أحياناً اطفاء المشاريع او تقليل الضخ في الأقل”.
“سلام غانم” موظف متقاعد في دائرة ماء نينوى، تمتد خبرته الى ما يقرب من أربعين عاماً. قال إن جميع الأطراف معها حق، فدائرة الماء تقوم بواجبها على أكمل وجه، تعقم المياه وتفحصها جيداً قبل ضخها، كما ان هذه المياه يمكن بالفعل أن تتسبب بالأمراض لأنها تتلوث في كثير من الاحياء والمناطق السكنية والتحذيرات الطبية في مكانها.
وبعد لحظات صمت، بدد سلام غمامة الحيرة التي شكلها بحديثه وأشار إلى أن المشكلة الرئيسية تكمن في شبكات نقل المياه من المحطات إلى المنازل. لافتاً الى أن عمرها في الكثير من المناطق يصل الى خمسة وستة عقود وقد تهالكت.
كما أن المدينة بأسرها بحسب وصفه كانت ساحة للتفجيرات وحرب شوارع مفتوحة منذ انهيار الوضع الامني بعد 2003 لحين تحرير الموصل من داعش في تموز 2017 وقد ادى ذلك الى تكسرات لا حصر لها للأنابيب تحت الأرض.
وشرح كيف أن المياه الآسنة تحت الأرض تختلط بالمياه القادمة من المحطات في المناطق التي فيها كسورات في الانابيب، ليحصل المواطن بالنتيجة على مياه ملوثة. وقال بأن الحل هو إعادة تأهيل شبكات نقل مياه الإسالة وهو ما يتطلب اموالاً لا تملكها نينوى في الوقت الراهن خصوصا مع الخراب الكبير في البنى التحتية لجميع المرافق العامة داخل الموصل ومحيطها.
ويبدو أن المعونات الدولية قد رصدت هذه المشكلة بالفعل، إذ قدم صندوق (قطر للتنمية) منحة مقدارها ثلاثة ملايين دولار لدعم قطاع المياه في مدينة الموصل والمناطق المحيطة بها، وتشتمل على إعادة تأهيل شبكات المياه في المنطقة، وشبكات التوزيع، ومحطات تعزيز المياه.
وبين مسفر بن حمد الشهواني، المدير الننفيذي لإدارة المشاريع التنموية بصندوق قطر للتنمية، أن هذه المنحة تهدف إلى تعزيز مراقبة جودة المياه في الموصل، وتحسين مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في مراكز الرعاية الصحية الأولية، بالإضافة إلى تحسينها في المدارس الابتدايئة، وتطوير خطة سلامة المياه لمحافظة نينوى.
وقد وقع الشهواني وخِيرْت كابالاري، المدير الإقليمي لـ “اليونيسف” في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ممثلاً لمنظمة اليونيسف اتفاقية بشأن هذه المنحة وأوجه إنفاقها.
وهو ما فتح باباً للتفاؤل في نينوى بشان إمكانية إصلاح قطاع المياه ولاسيما ان إدارة المحافظة كانت قد أعلنت عن إفلاسها في وقت تتطلب فيه فاتورة أعمار البنى التحيتة في الموصل المدمرة بنسبة 80% جراء الحرب تقدر بـ (100) مليار دولار بحسب وزارة التخطيط العراقية.